• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آثار الحسد على الحياة الإجتماعية

رضا عبدالله أحمد

آثار الحسد على الحياة الإجتماعية
ورد في القرآن الكريم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ...) (البقرة/ 109). وعن رسول الله (ص): "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغوا وكونوا عباد الله إخوانا" وعنه أيضاً (ص): "إنّ الحسد ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".   - تعريف الحسد: إنّ الحسد هو كراهة وجود النعمة عند ا لآخرين أو حب زوالها فيهم سواء تمنى الحسود وجود هذه النعمة عند نفسه أو لم يتمناها. وفي المنظار الإسلامي يعتبر الإنسان حاسداً لو أراد لنفسه ما يكره لغيره أو يكره لنفسه ما يريد لغيره.   - أسباب الحسد: 1- التواء نفسية الإنسان وخباثة طبعه: فإنّ هذا الأمر يؤدي إلى الحسد بشكل طبيعي، فالحسود بسبب نفسيته الملتوية يبدي عدم رضاه الكلي عندما يسبغ الله تبارك وتعالى نعمهُ على عباده، فهو لا يتمنى للناس خيراً وسعادة بل يتمنى لهم خراب أمورهم وشقاءهم. ومثل هذا الإنسان يصعب التخلص من مرضه (الحسد) لأن المرض هنا ليس من الأسباب العارضة التي يسهل معالجتها غالباً بل انّ هذا المرض متصل مباشرة بنفسية الحسود وبطبعه. 2- العداوة والبغضاء: فإنهما موجبان للحسد، فإنّ الإنسان ليحسد الآخر لأنّه عدوه وبسبب بغضه له. وهناك نقطة ينبغي الإشارة إليها في هذا المجال وهي أنّه لو كان هناك شخص مؤمن مثلاً يبدي عدم رضاه نحو جاره الكافر بسبب ما لديه من ثروة وأموال، فهو يبدي عدم رضاه نحوه لأنّه يعتقد أنّ هذا الكافر إنما يتصرف بهذه الأموال في أمور غير شرعية كشرب الخمر وإقامة الحفلات الاهية فهو يتمنى زوال هذه النعمة منه، ولا يعتبر الإسلام ذلك حراماً ولكن ذلك يدخل في باب الغيرة، فالمؤمن هنا يغار ولا يرضى بالفساد. 3- حب التفرد في صفة من الصفات التي تميز الإنسان عن غيره كالشجاعة أو الفن أو العلم أو الجمال.. وحُب أن يُمدح الإنسان بما يمتاز به مما ذكرنا. إن نفس هذه العملية تسبب الحسد. 4- الخوف من فوت المقاصد: ويختص ذلك بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كل واحد يحسد الآخر ويتمنى عدم وصوله إلى ذلك المقصود لأنّه يريد لنفسه فقط التفرد به، كتحاسد المضرات في مقاصد الزوجية، والأخوة في نيل المنزلة في قلبي الأبوين. 5- التعزز: فالإنسان قد يشعر أحياناً بعزة نفسه فلا يرضى أن يكون أحد من أقرانه أو أصحابه أعلى مستوى منه، لأنّه يخشى أن يتكبّر عليه صاحبه ويستصغره، فهو يحسده كلما حصل على نعمة تعززاً لنفسه، ولكنه في الوقت نفسه لا يقصد التكبر – يعنى الحاسد – لأنّه يرضى بمساواة من يحسده، وإنما غرضه هو أن يدفع كبره. 6- التكبر: فالتكبر من طبعه الترفع على بعض الناس، فهو يحسد الآخرين الذين ينعم الله تبارك وتعالى عليهم، لأنّه يتصور أنّ الآخرين إذا وصلوا لمستوى أعلى من مستواه أو مساوياً له فسوف يكون ذلك عدم انقيادهم لأوامره ونواهيه، ويترفعون عن خدمته، فهو يحسدهم كلما أسبغ الله تبارك وتعالى عليهم من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، لأنّه يخاف أن يعود خادماً بعد ما كان مخدوماً. وقد كان حسد أكثر الكفار لرسول الله (ص) من هذا القبيل حيث قالوا: - (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف/ 31). فكيف يتقدم علينا غلام فقير يتيم. 7- التعجب: فقد يكون المحسود في نظر الحاسد حقيراً، فكيف يستحق تلك النعمة العظيمة من الله تبارك وتعالى. فمن هنا نشأ الحسد. وكثيراً ما حسدت الأمم أنبياءها لهذا السبب بقولها على حد تعبير القرآن الكريم: (مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (يس/ 15). (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) (المؤمنون/ 48). (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (المؤمنون/ 34). فكان الأنبياء في نظر حاسديهم من الحقارة إلى أبعد حدودها، هذه الحقارة هي التي جعلتهم يتعجبون من فوزهم برتبة الوحي والرسالة. ومما يجدر بنا الإشارة إليه هنا هو أن كل تلك الأسباب التي تؤدي إلى الحسد ترجع أساساً إلى نقطة واحدة هي حب الدنيا والتعلق بملذاتها وزخارفها.   - قراءة في أفكار الإنسان الحسود: إنّ الإنسان الحسود يتجرأ على الله تبارك وتعالى، ويعانده، ولا يرضى بحكمه الفصل، وبتوزيعه العادل لنعمه الكثيرة التي يسبغها على عباده، في حين أن حكمته تبارك وتعالى تقتضي أن تبقى هذه النعمة على هذا الإنسان أو ذاك. فالله تبارك وتعالى من صفاته عدم النقص فهو الكامل وهو وحده الذي يتصف بكافة الصفات الكمالية ومنها الحكمة. ومع كل ذلك فإنّ الحسود يتمرد على الله تبارك وتعالى، ويتمنى أن تزول نعم الله عن عباده وبالتالي فهو يحب الشر ويرضى به ويطلبه في حين أنّ الله تبارك وتعالى يريد من البشر الكف عن اظهاره. وبالإجمال فإنّ الحسود أفكاره بعيدة كل البعد عن أفكار الإسلام النظيفة الناصعة البياض والطهارة، لأنّه يحب الضرر للغير ولا يعمل على حفظ الهدوء والاستقرار ونشر السعادة والمحبة في مجتمعه. وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية "إنّ الحاسد عدو لنعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي".   - دور الحسد السلبي في الحياة الاجتماعية: مما لا ريب فيه ولا إشكال هو أن أعمال الإنسان الحسود في الواقع المعاش مطابقة تماماً لأفكاره الكافرة؛ لأنّ النبات المر لا ينبت الإ مثله، وكذا الأفكار الشريرة السيئة لا تولد إلا أعمالاً ذات صبغة عدوانية حاقدة وفي غير صالح المجموع العالم أو الفرد نفسه. إنّا إذا أردنا أن نذكر ا‘مال الحسود وأفعاله نراها كلها أعمالاً غير صالحة لأنّها غير شرعية قد نهى الله عنها. وسنذكر من هذه الأعمال ما يلي: أ- القتل: والقول في أنّ الحسد قد يؤدي إلى القتل في كثير من الأحيان لا استغراب فيه ولا دهشة، فالأخبار التي تأتي من الساحة الاجتماعية ومن كل المجتمعات من خلال وسائل الإعلام والصحف والمجلات الخاصة بالقتل نستطيع أن ندخل في دوافعها – بعد تحليل الخبر – الحسد... ونحن نعلم من قصة هابيل وقابيل كيف أنّ الحسد حمل قابيل على قتل أخيه هابيل. ب- تعكير صفو الحياة الاجتماعية: فالحسود أفكاره تختلف عن أفكار المجتمع الذي يعيش فيه ولذلك فإنّ الخلافات بينه وبين من يتعامل معه تكاد تكون مستمرة في أغلب المعاملات سواء على المستوى الأسري أو الاجتماعي ممما يؤدي كل ذلك إلى تعكير صفو الحياة الاجتماعية. وللمزيد من التوضيح فإنّ الحسد يؤدي بصاحبه غالباً إلى غيبة الناس، والبهتان وهتك الستر وافشاء السر والقدح في الغير وذكر مساويه، والغش والرياء والكذب والنميمة وعدم التعاون... ومن المعلوم أن كل هذه الصفات من الأخلاق الذميمة التي يتبرأ منها الإسلام وكلها تعمل على فتك أفراد المجتمع بعضهم ببعض، مما يوقع ذلك المجتمع في الشقاق والنفاق ثمّ الدمار.   - علاج الحسد: نظراً لكون الحسد من الأمراض النفسية المهلكة للنفوس فإن علاجه يختلف عن علاج المرض العضوي فالمرض العضوي يتم علاجه عن طريق الدواء.. أما المرض النفسي فيتم علاجه عن طريق التداوي بالعلم والعمل النافع والصالح. فما هو العلم الذي ينفع الحسود وما هو العمل النافع الذي لابدّ أن يتقيد الحسود به حتى يتخلص من مرضه؟ أوّلاً، العلم النافع: ويُقصد به العلم الذي يخلَص الحسود من كل الأفكار السوداء التي تنتاب فكره ومشاعره وأحاسيسه، وهو العلم الذي يحاول أن يغرس الفكر الإسلامي الأصيل في عقل الحسود، وهذا الفكر سيكون موقفه موقف الند أو الضد من أفكار الحسود وبعد أن يتلاقى الخصمان أو الفكران – الفكر الإسلامي والفكر الجاهلي – في صراع طويل يستطيع الفكر الإسلامي الانتصار على الفكر الكافر الذي انشأه الحسد في عقل صاحبه. ونقصد بالفكر أو العلم النافع الذي يجب غرسه وتغذية عقل الحسود به هو جملة من الأفكار تتلخص في الحقائق الآتية: 1- إنّ الحسد يضر بدين الحسود، وهو يجره إلى عدم الرضا بقضاء الله وإلى كره نعمه التي قسمها بين عباده بالحكمة (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 32)، كما يجره إلى إنكار عدل الله الذي أجراه في ملكه. إن مثل هذه الأفكار تؤدي إلى الكفر بالله تعالى لأنّها تزيل أصل التوحيد والإيمان فضلاً عن الأضرار بهما. وإنّ الكفر يقود صاحبه إلى جهنم إنّه يقوده إلى عذاب الله الأليم. فيجب إذن اقناع الحسود بكل هذه الأمور حتى يمكن احداث تغييرات جوهرية في فكره. 2- يجب اقناع الحسود بأنّ الحسد يسبب له الضرر البليغ في الدنيا فالحسود في عذاب وألم دائمين لأن نعم الله تبارك وتعالى لا تنقطع عن عباده. وذلك لا يزيد الحاسد إلا عذاباً وألماً كلّما رأى لمحسوديه نعمة أو أحس ببلية تنصرف عنهم. كما أنّ المحسودين سيعاملونه بالمثل فكلما يزداد غمه وهمه يفرحون تشفياً به. 3- لابدّ أن يعلم الحسود بأنّ الحسد لا ينفع الحسود فهو لا يغير من نعمة المحسود شيئاً فالذي يقدّره الله تبارك وتعالى لعباده من النعم لابدّ أن يستمر إلى وقته ولا ينفع الحسد والتدبير الحيلة في دفعه وأنّه لا مانع لما أعطاه ولا راد لما قضاه وأنّه (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (الرعد/ 38)، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/ 8). إنّ الحسود يجب أن يعلم بأنّ الحسد لا يؤدي إلى زوال النعمة وإن هذا الاعتقاد خاطىء وهو غير صحيح شرعاً؛ فلو كانت النعم تزول بمجرد الحسد لم تبق إذن نعمة على كافة الخلق لعدم خلوهم من الحسد. ولم تبق إذن نعمة الإيمان على المؤمنين لأنّ الكفار يحسدونهم. قال تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (آل عمران/ 69). 4- كما ينبغي إقناع الحسود بأنّ المحسود سيستفيد من جراء حسد الذي يحسده من حيث كسب الثواب الجزيل من الله تعالى كلما ازداد صبراً وخاصة إذا أدى الحسد بصاحبه إلى ما لا ينبغي من القول أو الفعل كالغيبة أو البهتان وإفشاء الشر. وفي هذه الحالة سينتقل بعضه من أوزار المحسود باعتباره مظلوماً إلى الحسود كما تنتقل بعض حسنات الحسود إلى المحسود. ثانياً العمل النافع: وحتى تكون تلك الأفكار ذات تأثير كبير في قلب أفكار الحسود السوداء رأساً على عقب يجب أن تتحول إلى تجسيد حقيقي قدر المستطاع فالعلم والعمل وجهان لعملة واحدة، فلا فائدة للعلم بدون اقترانه بالعمل الذي يحبه الله. والمقصود هنا بالعمل النافع ذلك العمل الذي يكون ضداً ونداً للعمل السيِّئ الذي يقابله فمثلاً لو كان التكبر هو الذي سبب الحسد لصاحبه فإن عليه تكليف نفسه وإلزامها بالتواضع. ولو بعثه الحسد على غيبة الناس أجبر لسانه على مدحهم والثناء عليهم. وهكذا... إنّ عليه أن يكرر ذلك ويداوم عليه، وهذا العمل بطبيعة الحال سيؤدي إلى حب المحسود له بعدما كان يكرهه، وإذا شعر الحسود بذلك فإنّه سيحبه هو الآخر فتتولد بينهما الموافقة وتزول حدة الحسد نهائياً بإذن الله.   المصدر: مجلة المنطلق/ العدد (14)

ارسال التعليق

Top